عبد الرحيم العطري يكتب: “محمد البقالي..مدمن الشغب الجميل!”

untitled1

بورتريه: الصحافي المغربي بقناة الجزيرة محمد البقالي

بقلم: عبد الرحيم العطري-كاتب و باحث سوسيولوجي

في البدء كانت الحكاية لا الكلمة، فما الحياة سوى حكايا متواترة، من متن لآخر، و من حلم لآخر، و الحكاية في البدء تقول بأن فتى من بلاد بعيدة جاء كونفشيوس يسأله: كيف يخدم وطنه؟ أمعن الحكيم في السؤال، فأجاب بكل امتلاء: قل الحقيقة، بالحقيقة وحدها نخدم وطنا لا بالتمويه و الكذب.
محمد البقالي الصحافي بمكتب قناة الجزيرة بالرباط، اختار الانتصار لحكمة كونفشيوس، بقول الحقيقة، و رفض تسويق الارتياح البليد، فمنذ انخراطه في دنيا المتاعب، و هو يدمن الشغب الجميل، يعري واقعا من الزيف، يكتب لحظات من القول الصريح بلا مراهم تجميل، فقط يكتب بالصوت و الصورة واقعا لا يرتفع، في استدماج حقيقي و نوعي لمهنة الصحافي الملتزم و المثقف العضوي.
لم يكن محمد البقالي لينضم إلى جوقة المطبلين لمغرب الخير و النماء مهما تعالت الإغراءات و التهديدات، لقد اختار منذ خطوه الأول في درب مهنة المتاعب، أن يكون صحافيا مهنيا، ينحاز إلى صوت الحقيقة في البدء و الامتداد، و ألا يبيع صمته لقاء امتيازات أو دراهم عابرة، لهذا انكتب عليه أن يرافق المتاعب، و ألا يحصل على بطاقة الاعتماد الصحافي، برسم هذا الموسم، و أن يتعرض من حين لآخر لحملات تخوين. فقط لأنه آثر كما باقي الأحبة في مكتب الرباط، إقبال و أنس و فاضل أن تكون قراءاته للزمن المغربي قاطعة بالمرة مع لغة الخشب و التلميع.
لهذا تغدو الكتابة السمعية البصرية عنده قدرا حارقا نحتمي به، يصير هزم البياض و تحبيره ضرورة قصوى لاكتشاف معنى الأشياء، فلا معنى للوجود بعيدا عن الانكتاب المنقوع في هموم الذات / الآخر ، لا معنى للمعنى ذاته بعيدا عن القلم المغموس في حبر الجاري بلا انقطاع..
البقالي، هذا القادم من دنيا المغرب العميق، من ريف محمد بن عبد الكريم الخطبابي، سيحل بالرباط في بحر التسعينيات ليلتحق بالمعهد العالي للإعلام و الاتصال، لينطلق بعد سنوات من الدرس و التحصيل باتجاه وكالة المغرب العربي للأنباء و صحيفة القدس العربي، ليستقر به المطاف أخيرا بمكتب الجزيرة بالرباط، حيث يدمن الفتى اليوم مسارات الشغب الجميل، و حيث يستعيد الألق الكونفوشيوسي بكل البهاء و الحرفية اللازمة.
لكن صديقنا مدمن الشغب الجميل لن يتوقف معرفيا عند دبلوم المعهد العالي للإعلام و الاتصال، بل سيمتشق دروب الدراسات العليا في الفكر الإسلامي، و منه إلى السوسيولوجيا، حيث يشتغل آنا على إعداد أطروحة لنيل الدكتوراه في مبحث الصحافة و القيم. ففي هذا التعدد المعرفي تكمن الإجابة الصادمة للاعقي الأحذية و الأكتاف، الذين يطلبون منه، بالمباشر و المرموز، ألا يكون ضد التيار، و أن ينضم لجوقة القطيع. فالقادم من مهنة الصحافة و المهاجر صوب الفكر الإسلامي، و المنتمي أخيرا إلى قارة السوسيولوجيا، لا يمكن إلا أن يكون مشاغبا، وفاء لروح بول باسكون الذي قال بكل وضوح “إن عالم الاجتماع هو ذاك، و بالضرورة، الذي تأتي عن طريقه الفضيحة”، و انهجاسا أيضا بما خطه بيير بورديو يوما و هو يقول” إن علماء الاجتماع، أشبه ما يكونون بمشاغبين يفسدون على الناس حفلاتهم التنكرية”، و عليه فهذا “البقالي”، و خلافا لما تتوقعون، لن يكون إلا مشاغبا و فاضحا لأقنعة الهباء.
لن يخرج من جلده كما تفعل الثعابين، و لن يستحم في الوحل كما تفعل الخنازير، و هي زواحف و حيوانات تكاثرت جدا في المغرب الراهن، أملا في تحقيق انتحار طبقي باتجاه من يدفع أحسن، فالبقالي يقول لهم بأن الوطن أجمل مما يتشدق به أصحاب السعادة، هذا الوطن الجنائزي لا يحتاج إلى عرابين و تافهين يتحينون الفرص لكي يعلموننا دروسهم الماسخة في الوطنية و المواطنة، ألم يشرب ذلك المسرحي المشرقي نخب الوطن قائلا بكل انتشاء و انتماء ” كأسك يا وطن “.
الوطن يا أصحاب السعادة و المعالي أكبر من حفنة تراب، أعظم من جواز سفر و بطاقة انتخاب، أجمل من حقل الزيتون و نسيم الصباح، الوطن لا تحده الجغرافيا و لا يكتبه التاريخ، و بعدا فالوطنية و المواطنة لا تحتاج إلى بيان أو نداء، لا تحتاج إلى من يمهرها بتوقيع زائف …
فالمواطنة الصادقة هي أن تفضح واقعا لا يرتفع، أن تكشف مأزق العيش في مرحاض، لا أن تلهج صباح مساء بمغرب الخير و النماء الذي لا يتحقق إلا الخيال السياسي. الوطن انتماء و امتداد ، شعور ملتهب في الأعماق لا يحتاج إلى دليل، حارق و فضيل يستيقظ فينا عندما نفرح و نحزن معا، يأخذنا نحو التماهي و قتل الأنا في سبيل نحن جماعية أكثر بهاء و نقاء، هو ذا الوطن مساحات لا متناهية من الحب ترتوي بدماء الشهداء و يحرسها شموخ الفضلاء …
محمد البقالي يقول كلمته و يمضي، لا يهمه غير المهنية و الأخلاق، يفكر في العطب العربي، يقاربه بمبضع الصحافي و السوسيولوجي في آن، رافضا الدخول في متاهات قبيلة الصحافيين، حيث الكثير من الكلام و القليل من الاحترافية. لهذا كله يقيم الصلح باستمرار مع أقلام يكسرها الواقع العنيد، لكنها لا تمل البري و لا تدمن التثاؤب، لا يجدا بدا من بريها من جديد حتى يواصل امتهان الحلم و صناعة الحياة ، لهذا كله يصر يوميا على التفكير بصوت عال في مختلف المعاني الهاربة منا قصدا و خطأ، على درب النقد و المساءلة لاكتشاف الماهية و تفكيك قواعد اللعب ..
في روبورتاجاته الصحفية، التي تأتينا عبر نشرة المغرب العربي المغتالة خطأ في زمن الأخطاء الذي لا ينتهي، نقرأ تفاصيل المغرب “الأقسى” و “الشقي”، نكتشف زاوية للحضور و الغياب، للمعنى و اللامعنى، للتواطؤ مع الحقيقة و الانقلاب على لغة الخشب، للأمل و اليأس، للأضداد كلها في أفق الكشف و التعرية الصادقة لما يعتمل في أعماقنا المنشرخة من أسئلة بلهاء و أخرى عميقة لا نريد التفكير فيها، إنها مساحات سمعية بصرية للشغب الجميل، تتوسل في اشتغالها بآليات الهدم و التفكيك، و تنفتح في تعاطيها على ظواهر مختلفة الطابع يوحدها البحث عن المعنى …مساحات لتوقيع نوتات الرحيل الأخير، بما ترسب في الأعماق من صرامة البحث السوسيولوجي و شساعة الحلم الأدبي و احترافية العمل الصحافي في رحاب قناة الجزيرة.
مدمن الشغب الجميل ينصحنا باستمرار بصناعة الحياة ما دام الموت هو ما يتربص بنا و هو ما يسرق منا المعنى، فالتأمل خير من الغرق في الصمت البهيم .. و قول الحقيقة أهم بكثير من كل الفظاعات التي ترتكب في حقنا عفوا وقسرا، فالعمل الصحافي وفقا لهذا الفهم يغدو انفتاحا لمقاربة نهاراتنا المزيفة، حيث الأضواء و الأقنعة و الشخصيات المستعارة تملأ كل الأمكنة و الأزمنة. و هذا ما يحترفه الفتى ضدا في عرابي المواطنة الجدد.
و كأني به يقول لمن يريد حجب أشعة الشمس بغربال: “أيها الرائي بعيدا، تعال إلى ذلك القصي فينا، تعال نقتفي معا آثار الفجيعة، نكتب اللحظة تلو الأخرى، نوقع الكلام الفضيل و نرتق أحلام الوطن ، نعيد له ألوانها الزاهية، ندفع عنها الذبول، نسقيها من دمنا، نهديها روحا خفاقة لا تعرف المستحيل …أيها الرائي بعيدا قريبا كم يزعجك سؤال الوطن؟ و كم تبتئس لحال الوطن؟ و قد اختزله الفاعلون الجدد في قطعة آثار معدة للتهريب أو رقصة فولكلورية لاستجداء العملة الصعبة، أو مؤسسات و هياكل للتدجين و التلميع … لكن الوطن أكبر من كل الاختزالات الحقيرة، إنه لا يرسم بالمسطرة و البركار، و لا تكتبه الدعاية و الاستجداء و لا التبجح و الادعاء، إنه أعظم من التفاهات المتوزعة طولا و عرضا في سمائه الكئيبة، إنه بكل بساطة الانتماء الحارق والسؤال الوجودي المؤرق”.
هذا هو محمد البقالي، صحافي مهني حتى النخاع، يقرأ الواقع بعين ثالثة، كما يوصي بذلك نيتشه، يرفض أن يكون رقما تافها مع القطيع، و لا يهم إن أدى ثمن الانتماء و الشغب الجميل آنا أو بعدا، المهم هو أن التاريخ يحتفظ بذكراه البهية، و يذكر حتما من كان مدمن شغب و فضح، و من كان مختصا في الماركوتينغ السياسي. فمن أجل الوطن يغني البقالي لحن الحياة و لو في أحلك اللحظات، من أجل الوطن الذي لا يستقيم إلا في الأحلام، يرسم بألوان الربيع الأمل القادم و لو في حرقة الألم و الفجيعة، من أجل شمسه الدافئة نستمر في الحلم و لو تربص بنا جلادو الحلم و العشق، من أجل مساحات الانتماء العربي و ليس فقط المغاربي يواصل المسير في طريق ملأى بالأنذال، و لا يعير كثير اهتمام لمنظري المواطنة و عرابيها الجدد، فالوطن أكبر مما يتصورون و ما يكتبون و ما يوقعون..

اقرأ أيضاً

مصطفى البقالي الشاعر والصحفي

مصطفى البقالي

Mustapha El BAKKALI

شاعر وإعلامي مغربي مقيم في واشنطن
مختارات
كتابي الأخير