أرق

مصطفى البقالي

ليلة أخرى أقضيها صحبة الأرق، وحساب المسافة التي تفصل بين نجمة القطب وجاراتها.
أتذكر الكوجيطو فألعن ديكارت بأقدح الشتائم..(أنا أفكر إذن أنا موجود)..
هراء !!
كان أستاذ الفلسفة يعشق ديكارت، وينطق اسمه كأي فرنسي نسي نفسه في المغرب بعد رحيل المستعمرين.
قيل لنا إن الوطن لم يكن يتوفر على عقول محلية تعلم أبناءه.
يقول (ديكاغت) أنا أفكغ..إذن أنا موجود”
اضحك في صمت..وبمرارة.
(أحيانا.. يلبس الدمع قناع الابتسامة)
******
الليلة الخامسة التي اقضيها دون أن يغمض لي جفن. سلسلة الأفكار تلف عنقي حد الاختناق، تأسرني حد البكاء، وأنا غير قادر على الإمساك بها، أو معرفة عدد حلقاتها الفلكية.
في هذه اللحظة أتذكر كل شيء فأنسى كل شيء..هي المتناقضات الممكنة، أتساءل في نفسي: هل الهذيان من أعراض التفكير؟
و هل الجنون نتيجة للتفكير، أم بدايته؟


يخيل لي كأني أشاهد فيلما سينمائيا بالأبيض والأسود.. أبدو من البعيد ألعب القمار في حانة حقيرة، وبعدها يرميني السفلة من باب الحانة بعد أن هزمتهم، وفزت بقلب راقصة التانغو.
نهرب معا إلى المجهول، نعبر الوديان والغابات، حتى نصل إلى صحراء نيفادا، نغرق في الرمال المتحركة. أنجو أنا وتموت السافلة.
لماذا تتركني أكمل هربي وحيدا!
أتذكر أغنية اسبانية قديمة يقول فيها صاحبها الذي نسيت اسمه :
(الوحدة..الوحدة..الوحدة..حيث الشعر، الجمال، الصدق والمودة)..
أرجم صاحبها في سري، أعود إلى سريري مع أفكاري المريضة.
الساعة المعلقة على الجدار المقابل للسرير تنعي هذه الليلة، وتبشر بصبح جديد.
ما اغرب هذه الدنيا التي جمعت كل التناقضات..الفناء والولادة ، السيد والعبد، السعيد والتعيس، الوردة والقنبلة، الحب والكراهية..
أعود لأتأكد من الساعة التي تشير عقاربها الصدئة إلى الثالثة والنصف بعد منتصف الحزن.
أحاول أن أراوغ الزمن، أمد يدي إلى كتب وضعتها بإهمال فوق طاولة بجانب السرير، أحمل واحدا، تطالعني صورة (فيكتور هيكو) و تحتها كتبت كلمة (البؤساء).
رواية قرأتها أكثر من مرة وشاهدت فيلما مقتبسا عنها مرتين، لكني أحس بأنها لا تموت..ومقاومة للصدأ الروائي.
أرمي رواية (البؤساء) جانبا، لكن لا استطيع التخلص من بؤسي المزمن!
فجأة، يأتيني صوت المؤذن، يخيل لي بأني أسمعه للمرة الأولى في حياتي.. أحس بشيء يتحرك داخلي وبرغبة في معانقة المئذنة، وشيء غريب يدفعني إلى الوقوف..لكني أقاوم وأقاوم.
يصلني صوت المؤذن” الصلاة خير من النوم”
أقرر القفز على هزائمي وكسلي، أتحرك إلى الحمام لأتوضأ واصلي، رغم أني لم أفعل ذلك منذ 20 سنة!
تنزل المياه الدافئة من الصنبور، أحاول أن أركز جيدا لاستحضر ما تعلمته عندما كنت بريئا.
نزلت إلى المسجد المجاور، دخلت بخشوع، وصليت الفجر.
أحسست بأن (سيزيف) الذي كان يسكنني قد غادرني، وألقى الصخرة.
حمدت الله كثيرا..وشكرت ديكارت!
** من مجموعة عندما قتل البنفسج

اقرأ أيضاً

مصطفى البقالي الشاعر والصحفي

مصطفى البقالي

Mustapha El BAKKALI

شاعر وإعلامي مغربي مقيم في واشنطن
مختارات
كتابي الأخير